مجزرة النصيرات- فرحة إسرائيلية مؤقتة وفشل استراتيجي بالكامل

المؤلف: د. سعيد الحاج10.26.2025
مجزرة النصيرات- فرحة إسرائيلية مؤقتة وفشل استراتيجي بالكامل

في اليوم الـ 247 من العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة المحاصر، أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي عن إطلاق سراح أربعة أسرى كانوا محتجزين لدى المقاومة الفلسطينية الباسلة، وذلك في عملية عسكرية دموية أسفرت عن سقوط مئات الشهداء والجرحى الأبرياء في مخيم النصيرات، الواقع في قلب قطاع غزة، في واحدة من أبشع المجازر الوحشية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه المستمر.

المجزرة

أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية الموقرة عن استشهاد ما لا يقل عن 274 فلسطينيًا، وإصابة 698 آخرين، بعضهم في حالة صحية حرجة للغاية، نتيجة للمجزرة المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم النصيرات، وذلك خلال العملية العسكرية التي نفذتها لتحرير عدد من أسراها الذين كانوا محتجزين لدى كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.

تعتبر هذه العميلة الأولى من نوعها منذ بداية العدوان، حيث فشلت حكومة الاحتلال في جميع المحاولات السابقة لإنقاذ أسراها من قبضة المقاومة الفلسطينية الشرسة على مدى ثمانية أشهر من العدوان المتواصل، والذي لم يعرف أي حدود أو قيود فيما يتعلق بالأسلحة الفتاكة المستخدمة والجرائم البشعة المرتكبة.

لم تدم الفرحة طويلًا، فبعد يوم واحد فقط من الاحتفال والابتهاج المبالغ فيه بإطلاق سراح الأسرى الأربعة، تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو صفعة مدوية بإعلان بيني غانتس وغادي آيزنكوت، الوزيران البارزان في حكومة الحرب، استقالتهما المفاجئة من الحكومة.

وصف غانتس قراره بأنه "معقد ومؤلم، واتخذ بقلب مثقل بالأعباء"، وخاطب عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة قائلًا: "لقد أخفقنا في الامتحان المصيري، ولم نتمكن من إعادة أبنائكم إلى ديارهم".

لخصت عبارات غانتس الصادمة نتيجة تسعة أشهر من الحرب الشعواء على غزة، والتي كانت محصلتها حتى الآن فشلًا ذريعًا وكارثيًا في تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وعلى رأسها استعادة الأسرى والمحتجزين.

بدوره، يبذل نتنياهو قصارى جهده للتغطية على هذا الفشل المروع من خلال تضخيم أثر استعادة الأسرى الأربعة وتسويقه على أنه انتصار ساحق، لترد عليه المقاومة الفلسطينية الباسلة بفشل آخر يسجل في رصيده المثقل بالخسائر، وهو إعلان كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- عن مقتل ثلاثة من الأسرى المحتجزين في قطاع غزة خلال العملية العسكرية التي نفذها جيش الاحتلال الغاشم في قلب مخيم النصيرات، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية.

الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" كان قد تحدى الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مرة أن يتمكن من "الحصول على أسراه أحياء" إلا من خلال اتفاق شامل لوقف إطلاق النار يتخلله تبادل للأسرى.

وباستثناء إعلان الاحتلال الإسرائيلي في شهر فبراير/شباط الماضي عن تحريره أسيرين تبين لاحقًا أنهما كانا محتجزين لدى مدنيين وليس المقاومة الفلسطينية، فقد فشل جيش الاحتلال فشلًا ذريعًا في استنقاذ أي أسير حي من قبضة المقاومة، وخاصة كتائب القسام. وقد أدى ذلك إلى زيادة الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو وحكومته المتطرفة بعد أن تأكد مرارًا وتكرارًا زيف ادعائه بأن الضغط العسكري المتواصل هو القادر على تخليص الأسرى، وبالتالي وقف الحرب.

في العملية الأخيرة، وفي سبيل تحرير أربعة أسرى إثر هجوم لم تتضح كافة تفاصيله بعد، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي وأصابت ما يربو على ألف شخص بريء في مخيم النصيرات في وضح النهار، فيما بدا فعلًا مقصودًا وممنهجًا منها على ما قال شهود عيان، مؤكدين أن قوات الاحتلال بادرت بإطلاق النار بشكل مباشر وعشوائي وقاتل، فضلًا عن القصف الجوي العنيف وغير المسبوق في إطار الأحزمة النارية التي استخدمتها لتشتيت جهود المقاومة ودفع الناس بعيدًا عن مكان العملية.

وكان من أكثر النقاط المثيرة للجدل بخصوص العملية مدى المشاركة الأميركية فيها. إذ رغم تأكيد القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم) أن الرصيف البحري "لم يستخدم في عملية الجيش الإسرائيلي لاستعادة المحتجزين في غزة" وأن الأخير استخدم المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الرصيف، فإن الإعلام العبري نقل عن مصادر حكومية رفيعة المستوى أن القوات الأميركية شاركت بفاعلية في عملية استعادة الأسرى.

كما أوردت وسائل الإعلام الأميركية معلومات إضافية، حيث نقلت شبكة "سي إن إن" عن مسؤول مطلع أن "قوات أميركية شاركت" في الهجوم الذي أدّى لتحرير الأسرى، وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤول أميركي رفيع أن فريقًا من المسؤولين عن استعادة الرهائن الأميركيين "ساعد الجيش الإسرائيلي من خلال توفير المعلومات الاستخبارية الحساسة والدعم اللوجيستي الكامل"، فضلًا عن الترحيب الأميركي الرسمي بالعملية في تجاهل تام للمجزرة المروعة المرتكبة في حق المدنيين.

أثر محدود

شكلت استقالة غانتس وآيزنكوت ضربة قاصمة لنتنياهو أفقدته ذلك الأثر المحدود الذي حصل عليه بعد تحرير الأسرى، مع توقع تصاعد وتيرة الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي والمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة في أسرع وقت ممكن.

ورغم ما تمثله هذه الاستقالة من ضربة موجعة، فيمكن القول إن نتنياهو سيسعى جاهدًا لتثبيت حكومته مهما كلف الأمر وبغض النظر عن استقالة غانتس وآيزنكوت، وسيحاول التأكيد بكل ما أوتي من قوة أن استعادة الأسرى من خلال الضغط العسكري الدامي حصرًا أمر ممكن، وأن العملية المذكورة ليست سوى باكورة لعمليات إضافية قادمة.

وعليه، قد يكون من المنطقي توقع مماطلة نتنياهو وتعنته أكثر في مفاوضات وقف إطلاق النار وإصراره الشديد على استمرار العدوان الغاشم من باب الجدوى والفاعلية وتراجع الضغوط عليه من الداخل "الإسرائيلي" والولايات المتحدة الأميركية على حد سواء، لا سيما بعد ردود الفعل الغربية الأولية على العملية، وفي مقدمتها التصريحات الأميركية والألمانية التي رحبت بتحرير الأسرى متجاهلة تمامًا ذكر (فضلًا عن نقد) المذبحة المروعة التي نفذتها قوات الاحتلال في المدنيين الأبرياء، والتي حمّلت حماس وحدها مسؤولية عدم التوصل للاتفاق.

يفسّر كل ذلك احتفاء نتنياهو ومعسكره بالعملية والمبالغة الواضحة في تقييم دلالاتها وآثارها على الحرب في المدى البعيد. لكننا نرى أن أثر العملية على مسار الحرب عمومًا وعلى مآلات ملف التفاوض محدودة ومؤقتة وسياقية إلى حد بعيد.

فمن جهة، لا يمكن تقييم العملية بشكل منبتٍّ عن توقيتها، إذ أتت "أول عملية تحرير ناجحة" بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحرب الطاحنة، وبعد محاولات عديدة باء بعضها بالفشل الذريع ومقتل الأسرى، بل وتخلل ذلك قدرة المقاومة الفلسطينية الباسلة على إضافة أسرى جدد لقائمتها كما حصل في عملية جباليا مثلًا.

كما أنه لا يمكن تقييم العملية بدون ذكر المخاطرة الكبيرة التي اكتنفتها والثمن الباهظ الذي دفع فيها مقابل محاولة تحرير الأسرى. ولسنا نتحدث فقط عن العدد الكبير من الشهداء الفلسطينيين الذين لا يبدو مهمًا في نظر الاحتلال الإسرائيلي، بل ربما كان مقصودًا لذاته، بل عن الخسائر الفادحة في القوة التي نفذت العملية والأسرى الذين حرروا، وغيرهم. ففيما يتعلق بالقوات، أعلن جيش الاحتلال عن مقتل ضابط كبير وجرح عدد من الجنود خلال تنفيذ العملية، وفيما يخص الثانية ذكر تصريح لـ "أبي عبيدة" أن جيش الاحتلال "خلال تحريره بعض أسراه تسبب بمقتل بعضهم"، وهما فاتورتان مفتوحتان على الزيادة في قابل الأيام، وحين تعرف تفاصيل إضافية.

الأهم من كل ذلك، أن عملية من هذا النوع لا تتكرر كل يوم بالنظر لما تحتاجه من متابعة دقيقة ومعلومات استخباراتية وفيرة وفرص سانحة وتخطيط محكم وتنفيذ متقن مع المخاطرة الكبيرة، فضلًا عن أن فرص نجاحها ليست مرتفعة أصلًا في ظل الأوضاع القائمة في القطاع. وإذا ما تخطينا كل ذلك وافترضنا أنها عملية قابلة للتكرار بنفس الوتيرة فسنكون أمام إطار زمني يمتد على سنوات لإخراج كل الأسرى من قبضة المقاومة الفلسطينية، التي من البديهي أنها ستدرس ما حصل، وتستخلص دروسه وتتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة لكيلا يتكرر.

ردات فعل

لذلك، ورغم نجاحها في الإطار الفني العملياتي، تبقى العملية استثناء نادرًا لا يتكرر بسهولة وسرعة، ولذلك فإن تأثيرها على المقاومة من جهة، وعلى مسار الحرب وملف التفاوض من جهة أخرى، يبقى محدودًا جدًا وأقرب للتأثير الظرفي المؤقت، وهو أمر تدركه حكومة الاحتلال نفسها، وهي في غمرة النشوة ومحاولات التوظيف السياسي للعمليّة.

وإذا ما كانت هذه قناعات حكومة الاحتلال نفسها فإن تقييم الأطراف الأخرى ومواقفها أكثر وضوحًا باتجاه محدودية العملية في مسار الحرب، والأهم في إطار المساعي لتحرير باقي الأسرى الذين يعدّون بالعشرات. ولا بد من الإشارة إلى أن ردات الفعل الناقدة للمبالغة في تقييم العملية ظهرت للعلن أسرع بكثير مما توقعنا حتى.

فعلى عكس ما قد يتوقع كثيرون، لم تبدِ المظاهرة الدورية لعائلات الأسرى – في يوم تنفيذ العملية – تأييدًا للحكومة أو تفويضًا لها، وإنما ركزت على فكرة " تحرير البقية بصفقة". كما أن تصريحات الشخصيات السياسية والعسكرية كانت أكثر وضوحًا ومباشرة.

فمقابل تصريح وزير الخارجية "الإسرائيلي" يسرائيل كاتس بأن "الضغط العسكري وحده واستمراره سيقودان لتحقيق صفقة لإعادة المحتجزين"، نقل الإعلام العبري تصريحات بالاتجاه المعاكس تمامًا. فقال رئيس مجلس الأمن القومي "الإسرائيلي" السابق غيورا إيلاند: إن العملية "مهمة للمعنويات الوطنية" إلا أنها "لن تغير الوضع العام"، داعيًا لصفقة تشمل وقف الحرب. كما قلل رئيس حزب العمل يائير غولان من نتائجها داعيًا "للتحقق من الواقع بعد النشوة" ومذكّرًا بأنه "ما زال هناك 120 مختطفًا ومختطفة.. بينما الجيش يتعثر في غزة، وتتآكل إنجازاته العسكرية".

كما نقلت صحيفة "معاريف" عن الرئيس السابق لشعبة العمليات في جيش الاحتلال يسرائيل زيف قوله: إن "الصفقة وحدها هي التي يمكنها إعادة المحتجزين"، ووصف زعيم المعارضة يائير لبيد – بعد العملية – حكومة نتنياهو بالفاشلة، داعيًا غانتس للانسحاب منها، إذ "ليس لديها أهداف سياسية معروفة لا في غزة ولا في لبنان".

وفي الخلاصة، فإنّ تداعيات العملية ليست كبيرة على مسار الحرب أو التفاوض، وقد بدأت سريعًا ردات الفعل "الإسرائيلية" الداعية لعدم المبالغة في تقييمها والاعتماد على أمثالها مستقبلًا في تحرير باقي الأسرى.

فلسطينيًا وعربيًا، ينبغي التركيز على المجزرة المرتكبة بحقّ المدنيين وضرورة مطالبة جميع الأطراف العربية والإقليمية والدولية للاضطلاع بمسؤولياتها ووقف العدوان ومحاسبة الاحتلال، لمنع تكرارها، وعدم الاستسلام للبروباغندا "الإسرائيلية" التي تحاول تصوير الأمر على أنه نقطة تحوّل وفشل كبير للمقاومة، على عكس الواقع الماثل أمام الجميع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة